الإشارة: ولما رأت الصوفية أن الشرك لا يُغفر، ولا يُسمح في شيء منه، جليًا أو خفيًا، حققوا إخلاصهم، ودققوا معاملتهم مع ربهم، وفتشوا على قلوبهم، هل بقي فيها شيء من محبة غير مولاهم، أو خوفٌ من شيء دونه، وطهروا توحيدهم من نسبة التأثير لشيء من الكائنات، فتوجهوا إلى الله في إزالة ذلك عنهم.
قال بعضهم: شربتُ لبنًا فأصابني انتفاخ، فقلت ضرني ذلك اللبن، فلما كنت ذات يوم أتلو، وبلغت هذه الآية قلت: يا رب أنا لا أشرك بك شيئًا، فقال لي هاتفٌ: ولا يوم اللبن، فبادرت إلى التوبة. أ. هـ. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على تزكية أنفسهم بالدعوى، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وهم اليهود، قالوا: نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وَأحبَّاؤُه، وقيل: طائفة منهم، أتَوا بأطفَالِهِم إلى رسول الله ﷺ فقالوا: هَل عَلَى هؤُلآءِ ذَنبٌ؟ قال: «لآ».
قَالوُا: واللهِ مَا نَحنُ إلا كَهَيئَتِهِم، مَا عَمِلنَا بالنّهَارِ يُكَفَّر عَنَّا باللَّيلِ، وما عملنا باللَّيلِ يُكَفَّر عَنَّا بالنّهَارِ، فنزلت فيهم الآية. وفي معناهم: من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها.
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن، فيزكي من يستحق التزكية، ويفضح المُدَّعِين، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب مثلاً لحقارة الشيء، فأن الله لا يظلم مثقال ذرة، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أبناء الله، أو أنهم معغفور لهم، وَكَفى بِهِ أي: بالافتراء، إِثْماً مُبِيناً أي: ظاهرًا لا يخفى على أحد.
الإشارة: قال بعض الصوفية: للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت. قال أبو سليمان الداراني: لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي. وفي الحِكَم: «أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ: الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ: عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه؟! وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟!».