الإشارة: لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة. ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إسلاما، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إحساناً، إِيَّاكَ نَعْبُدُ عبادة، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبودية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ فرق إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جَمْعٌ. هـ.
وإن شئت قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأهل العمل لله وهم المخلصون، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وبالله التوفيق.
ثم بيّن المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق، فقال:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٦]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)
قلت: الهدايةُ في الأصل: الدلالة بلطف، ولذلك تُستعمل في الخير، وقوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ على التهكم، والفعل منه (هَدَى) بالفتح، وأصله أن يُعدى باللام، أو «إلى»، فَعْومل هنا معاملة:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ. والصراط لغة: الطريق، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلةَ أي


الصفحة التالية
Icon