وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً، كما طلبوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ بهلاكهم، فإنَّ سُنة الله جرَت بذلك فيمن قبلهم مهما اقترحوا آية، فظهرت ثم كفروا، عجَّل الله هلاكهم، ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي: لا يُمهلون بعد نزولها ساعة.
وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك- كما اقترحوا- فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليُطيقوا رؤيته، وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليتمكنوا من رؤيته، كما مثّل جبريل في صورة دِحية، فإن القوة البشرية لا تقوَى على رؤية الملائكة. وإنما رأوهم كذلك الأفرادُ من الأنبياء، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا: إنما هو بشر لا ملك. فهذا معنى قوله: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي: لخلَطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلاً مُلبسًا يطرق لهم إلى أن يُلبِسوا به على أنفسهم وضعفائهم فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته ليبقى سر الربوبية مَصُونًا، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها، حتى علمها ضرورة، وغيره يلبس الأمر عليه فيها. وبالله التوفيق.
الإشارة: كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء، لا تظهر إلاَّ لأهل الصدق والتصديق، ولا يتحقق بولايتهم إلاَّ مَن سبق له الوصول إلى عين التحقيق. «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه»، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضي البعد عنهم. وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضي القرب منهم والمحبة فيهم. والله تعالى أعلم.
ثم سلّى رسوله- عليه الصلاة السلام- فقال:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
قلت: حاق يَحِيق حَيقًا، أي: نزل وأحاط، و (منهم) : يتعلق بسخروا، و (ما كانوا) : الموصول اسمي أو حرفي.
يقول الحق جلّ جلاله في تسلية رسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثير مِنْ قَبْلِكَ فصبروا على أذى قومهم حتى أهلكهم الله، فَحاقَ أي: أحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي:
نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به ويستبعدونه، أو: نزل بهم وبالُ استهزائهم وهو الهلاك.
الإشارة: كل ما سُلِّيت به الرسل تسلى به الأولياء، فما من ولي صِدِّيق إلا ابتلاه الله بتسليط الخلق عليه حتى ترحلَ رُوحه عن هذا العالم لضِيقه عليها، وتتمكن من شهود عالم الملكوت، فإذا طهرت منه البقايا، وكملت فيه المزايا، ردَّه إليهم غنيًّا عنهم، وغائبًا عنهم، جسمُه مع الخلق وقلبه مع الحق. هذه سُنة الله في أوليائه، فكل وليّ يتسلى بمن قبله في إيذاء الخلق له. غير أن أولياء هذه الأمة إذا كمل مقامهم صاروا على قَدَم نبيهم، يكونون رحمة