الإشارة: إذا علِم العبدُ أن الخلق كلهم في قبضة الله، وأمورهم كلها بيد الله، أحاط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا، لم يبق له على أحد عتاب، ولا ترتيبُ خطأ ولا صواب، إلاَّ ما أمرت به الشريعةُ على ظاهر اللسان. بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك في ملكه، فيتلقاه بالقبول والرضى، وفي الحِكَم: «ما تَركَ من الجهل شيئا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه»، هذا شأن أهل التوحيد يدوُرون مع رياح الأقدار حيثما دارت، غيرَ أنهم يتحنَّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان، وينهضون بهمتهم إلى مَظانّ السعادة والغفران، ويرجون منه الجمع عليه في رَوْح وريحان، وجنة ورضوان، بمحض فضل منه وإحسان. جعَلَنَا الله منهم بفضله وكرمه. آمين.
ثم أقام الحجة على أهل الشرك، فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤ الى ١٨]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
قلت: (فاطر) : نعت لله، ومعناه: خالق ومبدع. قال ابن عباس رضى الله عنه: (ما كُنت أعرف معنى فاطر، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطَرتها بيدي). وجملة: (وهو يطعم) : حال، وقُرِىء بعكس الأول ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على أن ضمير (هو) راجع لغير الله، وببنائهما للفاعل على معنى يُطعِم تارة، ويمنع أخرى، كقوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ «١»، وجملة (إن عصيتُ) : معترضة بين الفعل والمفعول، والجواب: محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: إن عصيتُ فإني أخاف عذاب يوم عظيم.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي: معبودًا أُواليه بالعبادة والمحبة، وأُشركه مع الله الذي أبدع السموات والإرض، وَهُوَ الغني عما سواه، الصّمدانى، يُطْعِمُ عباده ولا يُطْعِمُ ولا يحتاج إلى من يُطعمه، فهو يَرزُق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. قُلْ لهم: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وأنقاد بكُلّيتي إلى هذا الإله الحقيقي، الغنى بالإطلاق، وأرفضُ كل ما سواه، ممن عمّه الفقرُ ابتداءً ودواما. فكان عليه الصلاة والسلام هو أولَ سابق إلى الدين. ثم قيل له: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تنفيراً لغيره من الشرك، وإلاّ فهو مبرَّأ منه- عليه الصلاة والسلام-.