ثم هددهم بما أعد لهم يوم القيامة، فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)
قلت: (لو) : شرطية، وجوابها محذوف: أي: لرأيت أمراً فظيعًا هائلاً، وإنما حذف في مثل هذا ليكون أبلغ ما يقدره السامع. و (لا نكذب) و (نكون) : قُرىء بالرفع، على الاستئناف والقطع عن التمني، ومثَّله سيبويه بقولك:
(دعني ولا أعود) أي: وأنا لا أعُود، ويحتمل أن يكون حالاً، أي: غير مُكذِّبين، أو عطفًا على: (نُرد)، وقُرىء بالنصب على إضمار «أن» - بعد واو المعية في جواب التمني.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ تَرى يا محمد، أو: يا مَن تصح منه الرؤية، حالَ الكفار إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ حين يعاينونها أو يطّلعون عليها، أو يدخلونها، فيعرفون مقدار عذابها، لرأيت أمرًا شنيعا وهو لا فظيعًا فَقالُوا حينئذٍ: يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ندموا حين لم ينفع الندم، وقد زلّت بهم القدم، قال تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ أي: ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا من عيوبهم وقبائح أعمالهم، أو: بدا لهم حِقيّة الإيمان وبطلان ضده، عيانا، لمّا وقفوا على التوحيد وعرفوه ضرورة، وقد كانوا في الدنيا يُخفونه ويُظهرون الشرك، عياذًا بالله. قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور، لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي لأنهم من قبضة الشقاء، والعياذ بالله، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا من أنفسهم من الإيمان وعدم التكذيب. وفي هذا: الإخبار بما لا يكون، ولو كان كيف يكون، وهو مما انفرَد الله بعلمه.
الإشارة: يوم القيامة هو محل ظهور حقائق الأشياء على ما هي عليه، فإن كانت حقًا ظهرت حقيقتها وصحتها، وإن كانت باطلة، ظهر بطلانها عيانًا، لكن لا تنفع المعرفة حينئذٍ، لرفع حجاب الحكمة وظهور القدرة، فلم يبقَ غيبٌ، وإنما المزِيَّةُ في الإيمان بالغيب، والمعرِفةَ في النكران، والشهود خلف رداء الكبرياء، بشهود المعاني خلف الأواني، فإن ظهرت المعاني فلا إيمان، وإنما يبقَى العيان، لأهل العيان، والخيبة لأهل الخذلان.
قال الورتجبي: القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا، ولو عرفوه لكانوا موحدين، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر، ولا ينفعهم ذلك لفوتهم السير في النكرات، التي معرفتها توجب المعارف، وذلك المقام في آماكن صُدورهم، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر وشهوة العصيان بغير اختيارهم لقلة عرفانهم به، ولا يكون قلبٌ من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب، بإلهام الله الذي يعرف به طُرُقَ رضى الحق، وصاحبه يعلم ذلك ويسمع ويُخفيه في قلبه، لأنه أدق من الشعرة، وحركته أخفى من دبيب النمل، ومع ذلك يعرفه من نفسه، ولكن من غلَبت شهواتُ نفسه عليه، لا يتبع خطاب الله بالسر، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه، تعييرًا لهم وحجة عليهم. انتهى.


الصفحة التالية
Icon