وسبب هذا: الركون إلى دار الغرور، ونسيان دار الخلود، ولذلك قال تعالى بإثره: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: وما أعمالها إلا لعب ولهو، تُلهي الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية، وما مدة بقائها مع ما يعقبها من الفناء إلاَّ كمدة اللعب واللهو، إذ لا طائل تحته لمن لم يعمر أوقاتها بطاعة ربه، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها وخلوص نعيمها وصفاء لذاتها، أَفَلا تَعْقِلُونَ أيّ الأمرين خير، هل دار الخراب والفناء، أو دار النعيم والبقاء، وفي قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ: تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين كله لعب ولهو.
الإشارة: إذا كمل نور العقل حصل لصاحبه التمييز بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، فنظر بعين اعتباره إلى الدنيا، فوجدها ذاهبة فانية، ونظر إلى الآخرة، فرآها مقبلة باقية دائمة، فصدف عن الدنيا مُوليًا، وأعرض عن زهرتها مدبرًا، وأقبل بكليته إلى مولاه، غائباً عن كل ما سواه، فجعل الموت وما بعده نصب عينيه، وخلف الدنيا وراء ظهره أو تحت قدميه. وفي الحِكم: «لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا، وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها» وقال بعض الحكماء: (لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى. ولا سيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى والآخرة من ذهب يبقى). فلا يختار هذه الدار إلا من لا عقل له أصلاً. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «الدُّنيا دَارُ مَن لا دَار لَه، وَمَالُ مَن لا مَالَ لَهُ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ، وعلَيها يُعَادى مَن لا عِلم عِنده» «١». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما لَقِيَ من قومه، فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
قلت: «قد» للتحقيق، وإنه ضمير الشأن، وقرأ نافع: «يُحزن»، بضم الياء حيث وقع، إلا قوله: لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «٢» والباقون: بفتح الياء، وفيه لغتان: حزن يحزُن، كنصر ينصر، وأحزن يحزِن. والأول أشهر.

(١) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند ١٦/ ٧١ من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها.
(٢) من الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء.


الصفحة التالية
Icon