يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا- حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى الله-: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى الله، وعلى أنه رسول من عند الله، قُلْ لهم: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً خارقة للعوائد، يرونها عيانًا، وتضطرهم إلى الإيمان، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن إنزالها وبالٌ عليهم لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقاب، أو: لا يعلمون أن الله قادر على أكثر مما طلبوا؟.
وهذا الطلب قد تكرر منهم في مواضع من القرآن، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة، منها: ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات لأنهم قد أتاهم بآيات، وتحصيل الحاصل لا ينبغي، كقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ «١»، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «٢» ومنها: ما يقتضي الإعراض عنهم لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته. ويحتمل أن يكون منه قوله هنا: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ... الآية.
فإن قيل: كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة، كانشقاق القمر، وإخبارهم بالغيب، وغير ذلك؟ فالجواب:
أنهم لم يعتدوا بما رأوا لأن سر الربوبية لا يظهر إلاَّ ومعه شيء من أردية القهرية، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر، وهو خلاف الحكمة.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره، فقال: وَما مِنْ دَابَّةٍ تَدِبُّ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ في الهواء، إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مقدرة أرزاقها، محدودة آجالها، معدودة أجناسها وأصنافها، محفوظة ذواتها، معلومة أماكنها، كلها في قبضة الحق، وتحت قدرته ومشيئته، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، فيدل على قدرته على أن ينزل آية، وعلى بعثهم وحشرهم لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم، كما قال تعالى: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي: اللوح المحفوظ، مِنْ شَيْءٍ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق، لم يهمل فيه أمرَ حيوان ولا جماد، ظاهرًا ولا باطنًا، أو القرآن فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، حتى قال بعض السلف: (لو ضَاع لى عقال لوجدته في كتاب الله) أي: باعتبار العموم وأصول المسائل.
قال تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي: الأمم كلها، فيُنصف بعضها من بعض. كما رُوِي أنه يُؤخذ للجَمَّاء من القَرنَاء «٣» وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال في هذه الآية: (يُحشر الخلقُ كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغُ من عَدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كُوني ترابا، فذلك حين يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«٤». وفي المسألة اضطراب بين العلماء، والصحيح هو حشرها، كما قال تعالى:
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «٥» وعن ابن عباس رضى الله عنه: (حشرها موتها). والله تعالى أعلم.

(١) من الآية ١١٨ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٥١ من سورة العنكبوت.
(٣) كما فى حديث: «لتؤدّون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب تحريم الظلم) من حديث أبى هريرة. والجماء: التي لا قرن لها.
(٤) من الآية ٤٠ من سورة النبأ.
(٥) الآية ٥ من سورة التكوير.


الصفحة التالية
Icon