ولما خاصموا إبراهيم عليه السلام فلم يلتفت إليهم، خوفوه بأصنامهم، فقال لهم:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَكَيْفَ أَخافُ مآ أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
قلت: الاستثناء في قوله: (إلا أن يشاء) : منقطع. قاله ابن جزي. وظاهر كلام البيضاوي: أنه متصل، وهو المتبادر، أي: وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ في حال من الأحوال إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي أن يصيبني بمكروه من جهتها استدراجًا لكم، وفتنة. وقال الواحدي: لا أخاف إلا مشيئة ربي أن يعذبني.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن خليله إبراهيم: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أخاف معبوداتكم أن تصيبني بشيء لأنها جوامد لا تضر ولا تنفع، إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يصيبني بقدَره وقضائه، فإنه يصيبني لا محالة، لا بسببها، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، كأنه علَّة الاستثناء، أي: لا أخاف إلا ما سبق في مشيئة الله، لأنه أحاط بكل شيءٍ علماً، فلا يبعد أن يكون في علمه وقدره أن يحيق بي مكروه من جهتها، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتُمَيزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز؟.
وَكَيْفَ أَخافُ مآ أَشْرَكْتُمْ وهو جامد عاجز لا يتعلق به ضرر ولا نفع؟ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو أحق أن يُخاف منه كل الخوف، لأنه القادر على الانتقام ممن أشرك معه غيره، وسوَّى بينه وبين مصنوع عاجز، لا يضر ولا ينفع، فأنتم أحق بالخوف لأنكم أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي: لم يُنَزل بإشراكه كتابًا، ولم ينصب عليه دليلاً، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ: أهل التوحيد والإيمان، أو أهل الشرك والعصيان؟ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يَحق أن يُخاف منه.
ثم أجاب عن الاستفهام: الحق تعالى أو خليلهُ، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا أي: يخلطوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: بشرك، بل آمنوا بالله ولم يعبدوا معه غيره، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ في الآخرة، وَهُمْ مُهْتَدُونَ في الدنيا. أما الطائع فأمنه ظاهر، وأما العاصي فيؤمن من الخلود وتحريم الجنة عليه.
ولمَّا نزلت الآية أشفق منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ لأنهم فهموا عموم الظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليس ما تظنون، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ» «١»،
ومسلم فى (الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه) من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.