ثم أجاب عن استفهامه بقوله: قُلِ اللَّهُ أي: أنزلَه الله، أو الله أنزله. قال البيضاوي: أمره بأن يجيب عنهم إشعارًا بأن الجواب بهذا مُتَعيّن لا يمكن غيرُه، وتنبيهًا على أنهم بُهتُوا بأنهم لا يقدرون على الجواب هـ.
ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ في أباطيلهم. فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة، وأصلُ الخَوض في الماء، ثم أستُعير للمعاني المُشكِلة، وللقلوب المتفرقة في أودية الخواطر.
الإشارة: يُفهم من الآية أن من أقَرَّ بإنزال الكتب وآمن بجميع الرسل، فقد قَدَر الله حقَ قدره وعظَّمه حق تعظيمه. وهذا باعتبار ضعف العبد وعجزه وجهله وإلاَّ فتعظيم الحق حق تعظيمه، ومعرفته حق معرفته، لا يمكن انتهاؤها، ولا الوصول إلى عشر العشر منها. قال تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «١»، وقال: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ «٢» فلو بقي العبد يترقى في المعرفة أبدًا سرمدًا، ما عرف الله حق معرفته، حتى ينتهي إلى غايتها، ولو بقي يعبد أبد الأبد ما قام بواجب حقه.
وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ استشهد به الصوفيةُ، في طريق الإشارة، على الانفراد والانقطاع إلى الله، وعدم الالتفات إلى ما عليه الناس من الخوض والاشتغال بالأغيار والأكدار، والخروج عنهم إلى مقام الصفا، وهو شهود الفردانية، والعكوف في أسرار الوحدانية. قال ابن عطاء الله- لما تكلم على أهل الشهود- قال: (لأنهم لله لا لشيء دونه، قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). وقد يُنكِر عليهم من لم يفهم إشارتهم تجمدًا ووقوفًا مع الظاهر، وللقرآن ظاهر وباطن لا يعرفه إلا الربانيون. نفعنا الله بهم، آمين.
ثم قرر صحة إنزال كتابه، فقال:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أي: كثير البركة، حسًا ومعنًى لكثرة فوائده وموم نفعه، أو: كثير خيره، دائم منفعته، قال القشيري: مبارك: دائم باق، لا ينسخُه كتابٌ، من قولهم: بَرك الطير على الماء. هـ. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المتقدمة، وَلِتُنْذِرَ أنت أُمَّ الْقُرى أي: مكة،
(٢) الآية ٢٣ من سورة عبس.