يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى، واختلف في الكسوة، فقيل: أبقى الله كسوتهم معجزة لموسى، وقيل: كساهم مثل الظفر. والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة في درجاتهما، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه، مات هارون أولاً ودفنه أخوه في كهف، وقيل: رُفع على سرير في قبة، ثم مات موسى- عليه السلام- ودفن بقرب من الأرض المقدسة، رمية بحجر، كما في الحديث، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى لموسى عليه السلام: فَلا تَأْسَ أي: لا تحزن، عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، خاطبه الحق تعالى بذلك لمَّا ندم على الدعاء عليهم، فقال له: أنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله للمتوجهين إليه من المريدين: ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب الله لكم، إن دمتم على جهاد أنفسكم، وصدقتم في طلب ربكم، وبقيتم في تربية شيوخكم، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل، فتنقلبوا خاسرين، فإن حضرتي محفوفة بالمكاره، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب، قال: لن ندخلها أبدا مادام القواطع فيها، ورجع على عقبيه، يتيه في مهامه شكوكه وأوهامه، وإن كان ممن سبقتَ له العناية وحقت به الرعاية قال:
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فيبادر إلى قتل نفسه، من غير تأن ولا خوف ولا فزع، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان، وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله:
وإيَّاك جَزعًا لا يَهُولُكَ أمرُهَا | فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجاعُ المُقّارعُ |
ثم تكلم الحق جل جلاله على بقية حفظ الأبدان، فبيّن أوَّلُ من سَنَّ القَتل ووبال من تبعه، فقال:
(٢) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم) عن النعمان بن بشير، بلفظ: (المؤمنون كرجل واحد..).