يقول الحق جلّ جلاله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد، حيث سَنَّه أولاً ولم يكن يعرفه أحد، فاقتدى به من بعده، كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ في التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: في غير قصاص، وبغير فساد في الأرض، كقطع الطريق والكفر، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُقتَلُ نَفسٌ مسلمةٌ بغير حق إلاَّ كَانَ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ من دَمِها لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتل» «١». أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة لأن هتك حرمة البعض كالكل.
وَمَنْ أَحْياها أي: تسبب في حياتها بعفو أو منع من القتل، أو استبقاء من بعض أسباب الهلكة كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك، فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أُعطِي من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا، وفي البخاري: «من أحياها- أي مَن حَرَّمَ قتلَها إلا بحق حيى الناس منه جميعًا». قال ابن جزي: والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه. هـ. فما كتبه الله على بني إسرائيل هو أيضًا شرع لنا. قال أبو سعيد: (والذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ ما جعل دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا).
وإنما خصّهم بالذكر لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم، ولتلوح مذمتهم. انظر ابن عطية. وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «مَن سَقَى مؤمنًا شربَة ماء والماءُ موجودٌ، فكأنما أعتقَ سبعين رقبة، ومَن سقَى في غيرِ مَوطِنِه فكأنما أحيا الناس جميعا».
الإشارة: كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد، كما في الحديث، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة، ومن الجهل إلى المعرفة، فكأنما أحيا الناس جميعًا لأن الأرواح جنس واحد، فإحياء البعض كإحياء الكل.
وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين، الدالين على الله، الدعاة إلى معرفة الله، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد، وفي بعض الأثر إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم: إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى اللهِ، ويمشُون في الأرضِ بالنصيحة».

(١) أخرجه البخاري فى (كتاب الأنبياء، باب خلق آدم) ومسلم فى (القسامة، باب بيان إثم من سنّ القتل).


الصفحة التالية
Icon