يقول الحق جلّ جلاله: واذكروا إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أي: بعدوة الوادي القريبة من المدينة، وَهُمْ أي: كفار قريش، بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي: البعيدة منها، وَالرَّكْبُ أي: العير التي قصدتكم، أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي: في مكان أسفل منكم، يعني الساحل، ثم جمع الله بينكم على غير ميعاد، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لهذا الجمع، أنتم وهم للقتال، ثم علمتم حالكم وحالهم لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ هيبة منهم لكثرتهم وقلتكم، لتتحققوا أن ما اتفق لكم من الفتح والظفر ليس إلا صنيعاً من الله تعالى خارقاً للعادة، فتزدادوا إيماناً وشكراً، وَلكِنْ الله جمع بينكم من غير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا سابقاً في الأزل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه في ذلك اليوم، لا يتخلف عنه ساعة.
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، أي: قدَّر ذلك الأمر العجيب ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة، فكل من عاينها ولم يؤمن قامت الحجة عليه. أو ليهلك بالكفر مَن هلك عن بينة وحجة قائمة عليه، ويحيى بالإيمان من حي به عن بينة من ربه، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ بكفر من كفر وإيمان من أمن، فيجازي كلاًّ على فعله. ولعل الجمع بين وصف السمع والعلم لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
واذكر أيضاً إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، كان صلّى الله عليه وسلّم قد رأى الكفار في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم وتجرءوا على قتالهم، وكانوا قليلاً في المعنى، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً في الحس لَفَشِلْتُمْ لجبنتم، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ في أمر القتال، وتفرقت آراؤكم، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي: أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: يعلم ما يكون فيها من الخواطر وما يغير أحوالها.
وَاذكر أيضاً إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي: يريكم الله الكفار، إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، حتى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة، تثبتاً وتصديقاً لرؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أَكَلَهُ جزور- بفتح الهمزة والكاف- جمع آكل-، أي: قدر ما يكفيهم جذور في أكلهم.
قال البيضاوي: قللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترءوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثّرهم حين رأوهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الوقعة، فإن البصر، وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصارَ عن إبصار بعض دون بعضٍ، مع التساوي في المرئي. هـ.


الصفحة التالية
Icon