الإشارة: قد قيض الله لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها، ظاهرا وباطنًا، وهم ورثته في الظاهر والباطن، وفي الخبر: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة، وهم الأولياء، فمن قصر في الجهتين قامت عليه الحجة، ولله الحجة البالغة، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال المسرفين من بنى إسرائيل وغيرهم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
قلت: سبب نزول الآية عند ابن عباس: قوم من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل. وهو مناسب لما قبله، وقال جماعة: نزلت في نفر من عُكل وعُرينَة، أظهروا الإسلام بالمدينة، ثم خرجوا وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلّم وأخذوا إبله، فبعث في إثرهم، فأُخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم «١»، فماتوا، ثم حُكمُها جارِ في كل محارب، والمحاربة عند مالك: هي حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج عنه، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، و (فسادًا) : منصوب على العلة، أو المصدر، أو على حذف الجار.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ حيث حاربوا عباده. فهو تغليظ ومبالغة، وَيحاربون رَسُولَهُ كما فعل العُرَينيون أو غيرهم، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بالفساد كإخافة الناس، ونَهب أموالهم. قال ابن جزي: هو بيان للحرابة، وهي درجات فأدناها: إخافة الطريق، ثم أخذ الأموال، ثم قتل النفس.
فجزاؤهم أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا، فالصلب مضاف للقتل، فقيل: يقتل ثم يصلب، إرهابًا لغيره، وهو قول أشهب، وقيل: يصلب حيًا ويُقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ،

(١) سمل أعينهم، أي: فقأها بحديدة محماة، أو غيرها.


الصفحة التالية
Icon