يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي: ما صح لهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي: شيئاً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل: هو المراد، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها، فأمره كأمرها، ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ بالتوحيد، أي: ليس لهم ذلك، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً، حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين:
عمارة بيت الله، وعبادة غير الله، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في الدنيا والآخرة لما قارنها من الشرك والافتخار بها، وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لأجل كفرهم.
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، أي: إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها، وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: قال الله تعالى: «إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ، وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه». ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال: بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله وأحب من أحبكم. هـ.
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به، ولدلالة قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عليه. قاله البيضاوي.
وَلَمْ يَخْشَ في أموره كلها إِلَّا اللَّهَ، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله، فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وعبَّر بعسى، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون فإن كان اهتداء هؤلاء، مع كمالهم، دائرا بين عسى ولعل، فما ظنك بأضدادهم؟، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان»، ثم تلا الآية «١».
الإشارة: مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي، لا يدخل الحضرة إلا قلب مُفرد، فيه توحيد مجرد، لا يعمر مساجد الحضرة ألا قلب مطمئن بالله، غائب عما سواه، قد رفض الركون إلى الأسباب، وأفرد