وقال عطاء: لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحرم، إلا أن يبدأوا بالقتال، ويرده غزوه صلّى الله عليه وسلّم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم.
الإشارة: أهل الفهم عن الله: الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم، ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول: كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليه نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضى الله عنه: الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت. هـ.
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفاسهم ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذا الإشارة بقوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) بتضييعها في غير ما يُقرب إلى الله. ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد.
ثم عاب على المشركين ما أحدثوا من النسيء، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٧]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
قلت: (النسيء) : التأخير، يقال بالهمزة وبقلبها ياء.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّمَا النَّسِيءُ، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها، فيجعلونها في شهر حرام، ويحرمون شهراً آخر بدلاً منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر، حتى يُكملوا في العام أربعة أشهر محرمة، وإنما ذلك زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنه تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا عن الحق، ضلالا زائدا على ضلالاً زائداً على ضلالهم، أو يضلهم الله بذلك، يُحِلُّونَهُ عاماً أي:
يحلون الشهر الحرام عاما، ويحعلون مكانه آخر، وَيُحَرِّمُونَهُ عاما، فيتركونه على حرمته، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون.


الصفحة التالية
Icon