لفظًا أو تأويلاً: يَقُولُونَ: أي: الذين لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم يهود خيبر: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي: إن أوتيتم هذا المحرّف وأفتاكم محمد بما يوافقه فخذوه، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بأن أفتاكم بغيره فَاحْذَرُوا أن تقبلوا منه.
وسبب نزولها: أن شريفًا مِن يهود خَيْبَرَ زنى بِشريفة منهم، وكانا مُحصنَين، وكرهوا رجمهما، فأرسلوا مع رَهطِ منهم إلى بَني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقالوا لهم: إن أمَرَكُم بالجَلّد والتَّحمِيم «١» فَاقبلُوا، وإن أمَرَكُم بالرَّجم فاحذروا أن تقبلوه منه، فأتوا رسولَ الله ﷺ بالزَّانِيين، ومعَهما ابن صوريا، فاستفتوه صلّى الله عليه وسلّم، فقال لابن صوريا:
أنشُدكَ اللهَ الذي لاَ إله إِلاَّ هُو، الذِي فَلَق البَحرَ لمُوسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكُم وأغْرَقَ آلَ فِرعَونَ، والذِي أنزل علَيكُم كِتَابه، وأحلَّ حَلاله وحرَّم حرامه، هل تجد فيه الرَّجمَ على من أحصن؟ فقال: نعم، فوثبوا عليه، فقال:
خِفتُ إن كَذبتَه أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالزَّانِيين فرُجِمَا عندَ باب المسجد، وفي رواية: دعاهم إلى التوراة فأتوا بها، فوضع ابن صوريا يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، فرجما. وفي القصة اضطراب كثير. ولعل القضية تعددت.
قال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: ضلالته أو فضيحته، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: تقدر على دفعها عنه، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر والشرك، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي:
هوان وذل بضرب الجزية والخوف من المؤمنين، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود في النيران.
هم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، كرر للتأكيد، وليرتب عليه قوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام، كالرشا وغيرها، وسُمي سحتًا لأنه يسحت البركة ويستأصل المال، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «من جمع المال من نهاوش أذهبه الله في نهابر» «٢».
ثم خيَّر نبيه- عليه الصلاة والسّلام- في الحكم بينهم، فقال: فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وقيل: نسخ بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ «٣». والجمهور: أن ما كان من باب التظالم والتعدي فإن الحاكم يتعرض بهم ويبحث عنه، وأما النوازل التي لا ظلم فيها، وإنما هي دعاوي، فإن رضوا بحكمنا فالإمام مُخير، وإن لم يرضوا فلا نتعرض لهم، انظر ابن عطية، وقال البيضاوي: ولو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول الشافعي، والأصح: وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًا، لأنا التزمنا الذب عنهم، ومذهب أبي حنيفة: يجب مطلقًا. هـ.
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً لأن الله عصمك من الناس، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي: العدل الذي أمر الله به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، فيحفظهم ويعظم شأنهم.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وهم لا يؤمنون بك، وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ أي: والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أو ثم يتولون عن حكمك

(١) التحميم: تسويد الوجه بالفحم.
(٢) النهاوش: المظالم. والنهابر: المهالك والأمور المتبددة.
(٣) من الآية ٤٩ من السورة [.....]


الصفحة التالية
Icon