وقال الورتجبي: الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب، واستقام في شهود جلاله وجماله، صار متصفًا بصفات الله- جل جلاله-، حاملاً أنوار ذاته، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه، صار ربانيًا، مثل الحديد في النار، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار، فإذا وصل إلى النار واحمر، صار ناريًّا، هكذا شأن العارف، فإذا كان منورًا بتجلي الرب، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب، ثم قال: العارف مخاطب من الله فى جميع أنفاسه، وحركاته، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام، وربما يخاطبه بنفسه، ويكلمه بكلامه، ويحدثه بحديثه، لقوله- عليه الصلاة السّلام-: «إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ منهم» «١». هـ.
ثم بيَّن الحق تعالى ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
قلت: من نصب الجميع: فعطف على النفس، وقصاص: خبر إن، ومن رفع العين: فيحتمل أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، و «قصاص» : خبر، من عطف الجمل، أو يكون عطفًا على موضع النفس لأن المعنى: قلنا لهم:
النفس بالنفس، أو على الضمير المستكن في الخبر، ومن رفع الجروح فقط، فعلى ما تقدم في العين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَتَبْنا على بني إسرائيل، أي: فرضنا وألزمنا عليهم في التوراة أَنَّ النَّفْسَ تقتل بالنفس في القتل العمد إن كان المقتول مسلمًا حرًا، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة، ولا حر بعبد، للحديث، وَالْعَيْنَ تُفقأ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ تُجدع بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ تُصلم بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ تُقلع بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتص من الجارح بمثل ما فَعل، إلا ما يخاف منه كالمأمومة «٢»، والجائفة، وكسر الفخذ، فيعطي الدية، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي: بالدم، بأن عَفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمقتول، يغفر الله ذنوبه ويعظم أجره، أو كفارة للقاتل أو الجارح، يعفو الله بذلك عن القاتل لأن صاحب الحق قد عفا عنه، أو كفارة للعافي لأنه مسامح في حقه، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له، اقتص منه أو عُفي عنه.

(١) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب ٥٤) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضائل عمر رضى الله عنه) عن أبى هريرة، بلفظ:
«إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان فى أمتى هذه، فإنه عمر بن الخطاب»
(٢) المأمومة: هى الشجة التي تبلغ أم الرأس، وهى الجلدة التي تجمع الدماغ.


الصفحة التالية
Icon