السائرين بعكس ما يستحقونه في جانب المخالفة فقد تهوى بهم أنفسهم إلى مقام الخفض فيرتفعون، وإلى مقام البُعد فيقتربون، وهذا في قوم سبقت لهم العناية، فلم تضرهم الجناية، وحفت بهم الرعاية، فلم تستهوهم الغواية، إذا صدرت منهم المخالفة ندموا وانكسروا. والغالب فيمن كان تحت جناح الأولياء الكبار أن يسلك به هذا المسلك العظيم وما ذلك على الله بعزيز.
وإذا كان الحق تعالى يعجل الخير ويمهل الشر، كان الواجب على العبد شكره على الدوام، لا الإعراض عنه ونسيانه، كما نبه عليه تعالى بقوله:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
قلت: (لجنبه) : متعلق بحال محذوفة، أي: مضطجعاً لجنبه، و (كأن) مخففة يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ في بدنه أو ماله أو أحبابه، دَعانا لإزالته مخلصاً فيه، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعاً لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، وفائدة الترديد تقسيم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ أي: مضى على طريقه واستمر على كفره، ولم يشكر الله على دفعه، أو مرَّ عن موقف الدعاء، ولم يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي: كأنه لم يدعنا إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ قط نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ «١» كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي: مثل هذا التزيين زين للمسرفين ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في الشهوات، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات.
وفي الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته.
الإشارة: من حسن الأدب السكون تحت مجاري الأقدار، والتسليم لأحكام الواحد القهار، «فليس الشأن أن تُرزق الطلب، إنما الشأن أن تزرق حسن الأدب»، وحسن الأدب: هو الفهم عن الله فإذا شرح صدرك للدعاء، فادع ولا تكثر، فإن المدعو قريب، ليس بغافل فيُنبه، ولا ببعيد فتنادي عليه، فإذا دعوته وأجابك فاشكره، وإن أخَّر عنك

(١) الآية ٨ من سورة الزمر.


الصفحة التالية
Icon