حصد من أصله، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ: كأن لم تُقم بِالْأَمْسِ، أو كأن لم يغن زرعها، أي: لم ينبت. والمراد:
تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتدبرون عواقب الأمور، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء.
وهي التي دعا إليها عبادة بقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي: السلامة من الفناء وجميع الآفات، أو دار الله الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك، أو دار يُسلم اللهُ والملائكةُ فيها على من يدخلها، وهي الجنة، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ توْفِيقَه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها، وهو الإسلام والتدرُّع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المُصِرّ على الضلالة لم يرد الله رشده. قاله البيضاوي.
الإشارة: ما ذكره الحق تعالى في هذه الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا، وأتعب نفسه في جمعها، فبنى وشيد وزخرف وغرس، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية، فلا ما كان أمَّل أدرك، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع.
وفي بعض خطبه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم». وقال أيضا صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولا فى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه».
ورُوي عن جابر رضى الله عنه أنه قال: شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: وعليك السلام. قال: يا رسول الله، ما الدنيا؟ فقال: حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون. قال: يا رسول الله، فما الآخرة؟. قال: الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال: يا رسول الله، فما الجنة؟ قال: ترك الدنيا بنعيمها أبداً، ثم قال: فما خير هذه الأمة؟ قال: الذي يعجل بطاعة الله، قال:
فكيف يكون الرجل فيها؟ - أي في الدنيا- قال: متشمراً كطالب قافلة، قال: وكم القرار بها؟ قال: كقدر المتخلف عن القافلة، قال: فكم ما بين الدنيا والآخرة؟ قال كغمضة عين. ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هذا جبريل، أتاكم يزهدكم في الدنيا».