الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، دون من تعبدونه من الأوثان. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي:
ليس بعد الحق إلاّ الضلال، فمن تخطى الحق- الذي هو عبادة الله- وقع في الضلال.
قال ابن عطية: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة- التي هي توحيد الله تعالى- وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحقّ فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال تعالى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «١». هـ.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال.
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي: كما حق الحق في الاعتقادات كَذلِكَ حَقَّتْ أي: وجبت وثبتت- كَلِمَةُ رَبِّكَ في اللوح المحفوظ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وذلك فى قوم مخصوصين. قال البيضاوي: أي: كما حقت الربوبية لله، أو أن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق، كذلك حقت كلمة الله وحكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا: تمردوا في كفرهم، وخرجوا عن حد الإصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وهو بدل من الكلمة، أو تعليل لها، والمراد بها العِدَة بالعذاب. وقرأ نافع وابن عامر:
«كلمات» بالجمع هنا، وفي آخر السورة، وفي غافر «٢». هـ.
الإشارة: قل من يرزقكم من سماء الأرواح علوم الأسرار والحقائق، ومن أرض النفوس علوم الشرائع والطرائق؟ أمَّن يملك السمع والابصار فيصرفهما إلى سماع الوعظ والتذكار، ونظر التفكر والاعتبار ليلتحق صاحبهما بالمقربين الأبرار؟ وقدَّم السمع لأنه أنفع لإيصال النفع إلى القلب من البصر. أم من يخرج الحي من الميت، فيخرج العارف من الجاهل، والذاكر من الغافل، أو يخرج القلب الحي من الميت بحيث يحييه بالمعرفة بعد الجهل؟ ومن يدبر الأمر لخواص عباده؟ أي: تدبيراً خاصاً، بحيث يقوم لهم بتدبير شئونهم، حيث لم يدبروا معه.
فمن لم يدبر دبر له، فالفاعل لهذه الأمور هو الحق المنفرد بالوجود، فكل ما سواه باطل، كما قال القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل... وكل نعيم لا مَحَالَةَ زَائِلُ
قال صلّى الله عليه وسلّم «أَصْدَقُ كَلِمَةُ قَالَها الشاعِرُ كَلَِمَةُ لَبيدٍ: أَلا كُلُ شيءٍ... » الخ «٣». فكل من صُرف عن شهود الحق إلى نظر السِّوى فهو في ضلال. قال تعالى فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، لكن من حقت عليه
(٢) فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ الآية/ ٦.
(٣) راجع إشارة الآية ١٥٠ من سورة البقرة.