الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال أو السَّبْي، وهذا قبل النسخ، وَلَا تحلّوا الْهَدْيَ، أي: ما أُهْدِيَ إلى الكعبة، فلا تتعرّضوا له ولو من كافر، وَلَا تحلّوا الْقَلائِدَ أي: ذوات القلائد، وهي الهَدْي المقلّدة، وعطفها على الهَدْي للاختصاص فإنها أشرف الهَدْي، أي: لا تتعرضوا للهَدْي مطلقًا. والقلائد جمع قِلادة، وهي: ما قُلِّدَ به الهَدْي من نَعْل أو لِحاء الشجر، أو غيرهما، ليُعلَم به أنه هَدْي فلا يُتَعَرَّض له، وَلَا تحلّوا آمِّينَ أي: قاصِدين البيت الحرام، أي: قاصدين لزيارته، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أي: يطلبون رزقًا بالتجارة التي قصدوها، ورضوانًا بزعمهم لأنهم كانوا كُفّارًا.
وذلك، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة، وذلك أنه أتى المدينة، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ، ودخل وحده إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إلامَ تدعُو النَّاس إليه؟ فقال له: «إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة».
فقال: حَسَنٌ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ، ولَعَلَّي أُسْلِم، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ، فلما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبى صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنه قلّد الهَدْيَ»، فقالوا يا رسول الله: هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية- أي: تقيه-، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية «١».
وقال ابنُ عباس: كان المشركون يحجّون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم، فنهاهم الله تعالى بالآية.
وَإِذا حَلَلْتُمْ من الحج والعمرة فَاصْطادُوا، أمْر إباحة لأنه وقع بعد الحَظْر، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي:
لا يحملنّكم، أو لا يكسبنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: شدّة بغضكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام منهم بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم. قال ابن جزيّ: نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون. هـ. ثم نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. «٢»
ثم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى كالعفو، والإغضاء، ومتابعة الأمر، ومُجانَبة الهوى. وقال ابن جزيّ: وصية عامّة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى هـ.
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ كالتشفّي والانتقام. قال ابن جُزَيّ: الإثم: كل ذنب بين الله وعبده، والعدوان: على الناس. هـ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد.
الإشارة: قد أمر الحق- جل جلاله- بتعظيم عباده، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا، «فالخلق كلّهم عِيال اللَّهِ، وَأَحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله»، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه

(١) أخرجه ابن جرير عن عكرمة. وذكره الواحدي فى الأسباب، عن ابن عباس.
(٢) من الآية ٥ من سورة التوبة.


الصفحة التالية
Icon