والحاصل: أن الحق جل جلاله كان في سابق أزله ذاتاً مقدسة، لطيفة خفية عن العقول، نورانية متصفة بصفات الكمال، ليس معها رسوم ولا أشكال، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس، فقال لها: كوني محمداً، فمن جهة حسها محصورة، ومن جهة معناها لا نهاية لها، متصلة ببحر المعاني الأزلي، الذي برزت منه، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة في الهواء. وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية- وهو تفسير للعماء المذكور قبلُ- فقال:
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطفٌ ولاَ هواً | ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسمٌ |
تَقَدَّمَ كلَّ الكائنات حديثُها | قديماً ولا شكلٌ هناك، ولا رَسْم |
وقامت بها الأشياءُ ثمَّ لحكمَةِ | بها احتَجَبَت عن كلّ من لا له فَهْمُ |
فالأشكال والرسوم متفرعة من تلك القبضة المحمدية، والقبضة متدفقة من بحر الجبروت الذي لا نهاية له، فهى منه حقيقة، وما ظهر تحديدها إلا من جهة حسها. فهي كثلجة في بحرٍ، ماؤها الباطني متصل في البحر، وظاهرها محدود محصور. فالأشكال كلها غريقة في بحر الجبروت، ولذلك قال صاحب العينية
«١» :
هو العرش والكرسىّ والمَنْظَرُ البهي | هو السِّدرةُ التي إِليهَا المَرَاجعُ |
وقال أيضاً:هُوَ المُوجِدُ الأَشْيَاءِ وهو وجودها | وعين ذوات الكُلّ وهْوَ الجَوَامعُ |
فَأوْصَافُهُ والاسْمُ والأثَرُ الذي | هُو الكَونُ عَيْنُ الذَّات والله جَامِعُ |
فالأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالحق تعالى كما كان لا شيء معه، فهو الآن كما كان. إذ التغير في حقه تعالى مُحال، ولا يعلم هذه الأسرار إلا من صحب أهل الأسرار، وحسب من لم يصحبهم التسليم. كما رمزوا وأشاروا إليه:
وإن لَمْ ترَ الهلالَ فسَلِّم | لأناس رَأوْهُ بالأبْصارِ |
وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: ليظهر منكم من يقف مع الأكوان، ومن ينفذ إلى شهود المكون. وهو الذي حسن عمله، وارتفعت همته. ولئن قلت أيها العامي: إنكم تحيون بالمعرفة من بعد موت قلوبكم بالجهل والغفلة إن صحبتمُوني، ليقولن أهلُ الإنكار: إن هذا إلا سحر مبين.