ثم وصف التوراة بقوله: إِماماً. أي: مؤتماً به في الدين، لأجله، وَرَحْمَةً على المنزل عليهم.
أُولئِكَ أي: من كان على بينة من ربه، يُؤْمِنُونَ بِهِ أي: بالقرآن، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ:
كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يدخلها لا محالة، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي: من ذلك الموعد، أو القرآن، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الثابت وقوعه، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم.
الإشارة: لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما: التوبة النصوح، والثاني: الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان على بينة من ربه. وهي درجات أولها: بينة ناشئة عن صحيح النظر والاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم: أهل الدليل والبرهان. وثانيها: بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم: العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها: بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله:
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ | والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ |
لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم | فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ |
والنَّاسُ في غفلة عما يراد بِهِم | فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ |
حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. هـ.