قلت: «لمَّا» : حرف وجود لوجود، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها: «ذهب»، وجوابها: محذوف، أي: جعل يجادلنا. والتأوه: التفجع والتأسف، ومنه قول الشاعر.
إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ | تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين «١» |
بيان الحامل له على المجادلة، وهي: رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بهلاكهم، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم، ولا مرد لما قضى، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال ولا دعاء، ولا غير ذلك.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى: (إن أبراهيم لحليم أواه) حليم بأنه كان لا يدعو على قومه، بل قال:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٣». وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه، هكذا وصْف العاشقين. ثم قال: ومجادلته كمال الانبساط، ولم يكن جهلاً، ولكن كان مُشفقاً، باراً كريماً، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة، وهو تعالى يُحب غضب العارفين، وتغير المحبين، ومجادلة الصديقين، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ- أي: يجترىء عليه انبساطا- فقلت: وهل يليق له ذلك؟ فقال: يعرفه فيتحمل عنه». ثم قال: ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح: يَتَذَمَّرُ على فلان: إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، مالم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا.
(١) عزاه القرطبي فى تفسيره إلى المثقّب العبدى.
(٢) من الآية: ٣٢ من سورة العنكبوت.
(٣) من الآية: ٣٦ من سورة ابراهيم.
(٢) من الآية: ٣٢ من سورة العنكبوت.
(٣) من الآية: ٣٦ من سورة ابراهيم.