تزيلوها بما أنتم عليه فإن مَن لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يوم القيامة، فإنه محيط بكل ظالم، أو عذاب الاستئصال في الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، وهي صفة العذاب لاشتماله عليه.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان. صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده مبالغةً، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة، حيث لا يتأتى دونها، وقد تكون الزيادة محظورة، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله: (بالقسط)، بلا زيادة ولا نقصان.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم حقهم، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره، وكذا قوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثو- وهو الفساد- يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل: المراد بالبخس: المكس، كأخذ العشور في المعاملات، والعثو: السرقة وقطع الطريق والغارة، وأكده بقوله: مُفْسِدِينَ وفائدته: إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعل الخضر عليه السلام، وقيل:
معناه: مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
بَقِيَّتُ اللَّهِ أي: ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام، خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالتطفيف، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام. أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب، وذلك مشروط بالإيمان، أو: إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم.
وقيل: البقية: الطاعة، كقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ «١». وقرىء، «تقية الله» بالتاء المثناة، وهى تقواه التي تكف عن المعاصي، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ عليكم أعمالكم، وأجازيكم عليها، إنما أنا نذير وناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو: أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها. أو: لست بحافظ عليكم نعم الله إن سلبت عنكم بسوء صنيعكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات. ولذلك قيل للجنيد في النوم: [أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي، بميزان وفي]، فالوفاء في الأعمال: إتقانها في الظاهر، باستيفاء شروطها وآدابها، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها. والوفاء في الأحوال: ألا تخرج عن قواعد الشريعة، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح، والوفاء في المقام: ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه. وفيه خلاف بين الصوفية: هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به، ثم يحققه في المقام الذي بعده، أم لا؟.

(١) من الآية: ٤٦ من سورة الكهف.


الصفحة التالية
Icon