قلت: فحق الله: كونه على بينة من ربه، وحق النفس: تمكينه من الرزق الحسَن. وحق الناس: نصحهم من غير طمع، ولا حظ.
ثم قال: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ وما توفيقي لإجابة الحق، والصواب، إلا بهدايته ومعونته، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز بل معدوم، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في جميع أموري. وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يُكسبنكم شِقاقِي: معاداتي، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق، أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة، والمعنى: لا تخالفوني فيجركمْ ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زماناً ولا مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم، فاعتبروا بهم إذ هم ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساويء، فلا يبْعد عنكم ما أصابهم. وإنما أفرد «بعيد» لأن المراد: وما إهلاكهم، أو وما هم بشيء بعيد.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عما أنتم عليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين، وَدُودٌ متودد إليهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد تضمنت خطبة شعيب عليه السلام ست خصال، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين:
الأولى: فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية: تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة: السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة: الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة: الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتبار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة: تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.


الصفحة التالية
Icon