إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فلا يخفى عليه شيء منها، فيجازي عليها بتمامها. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ: على حالتكم من تمكنكم في الدنيا، وعزتكم فيها، إِنِّي عامِلٌ على حالي، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، يُهينه في الدنيا والآخرة، وَسوف تعلمون مَنْ هُوَ كاذِبٌ مني ومنكم، وَارْتَقِبُوا وانتظروا ما أقول لكم، إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ: مرتقب لذلك. وهو فعيل بمعنى فاعل، كالصريح والرفيع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير. وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي. فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى يغيب عن تدبر المواعظ. وسبب تنوير القلب ورقته: قربه من الله، وتعظيمه لحرمات الله، وتعظيم من جاء من عند الله من أنبيائه ورسله، وورثتهم القائمين بحجته، كالأولياء والعلماء الأتقياء. وسبب ظلمة القلب وقساوته: بعده من الله، وإهانته لحرمات الله، واتخاذه أمره ظهرياً، وجعل ذكره نسياً منسياً. وبالله التوفيق.
ثم ذكر هلاك قوم شعيب، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا: عذابنا لقوم شعيب، نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، لا بعمل استحقوا به ذلك إذ كل من عنده، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل: صاح بهم جبريل فهلكوا، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ: ميتين. وأصل الجثوم: اللزوم في المكان. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها ساعة، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ، شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق، وصيحة مدين كانت من تحت، على ما قيل، ويدل عليه: التعبير عنهما بالرجفة في آية أخرى «١»، والرجفة في الغالب إنما تكون من ناحية الأرض. وفي البيضاوي خلاف هذا، وهو غير جَيد.
قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين: أصحاب الأيكة، وأصحاب مدين، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، على ما يأتي، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين. قيل: وآمن بشعيب من الفئتين: تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر، وكان شجرهم الدَّوْم «٢» - وهو شجر المقل.

(١) كما في قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. الأعراف ٧٨، ٩١.
(٢) الدّوم: شجر يشبه النخلة.


الصفحة التالية
Icon