ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ أي: ذات شدة وجوع يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي: يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن. أسند الأكل إلى السنين مجازاً تَطْبِيقاً بين المعبر والمعبر به، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي:
مما تخزنون وتخبئُون للزراعة والبذر. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي: يغيثهم الله بالفرج من القحط، أو يغاث بالمطر، لكن مصر إنما تسقى من النيل. وَفِيهِ أيضاً يَعْصِرُونَ العنب والزيتون لكثرة الثمار. أو يعصرون الضروع لحلب اللبن لأجل الخصب. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أوَّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة. والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة. ولعله علم ما في السنة الثامنة من الخصب والرخاء بالوحي، أو بأن انتهاء الجدب لا يكون إلا بالخصب، وبأن سنة الله الجارية أن يوسع على عباده بعد ما ضيّق عليهم، لقوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «١». والله تعالى أعلم.
الإشارة: الروح في أصل نشأتها علامة داركَةٌ، تكاشف بالأمور قبل وقوعها، إذا غابت عن إحساسها الذي حجبها عن ذلك العلم، ولو كانت من كافر إذا غابت عن حسها بنوم، أو اصطلام عقل. فمن طهرها من دنس الشرك بالتوحيد، وغيبها عن شواغل الحس بالتفرغ والتجريد، رجعت إلى أصلها، وفاضت عليها العلوم التي كانت لها قبل التركيب فى هذا القالب الحسي، علماً وكشفاً. ولا شيء أنفع لها في الرجوع من السهر والجوع. وفى الجوع أسرار كثيرة حسية، ومعنوية، وبسببه جمع الله شمل يوسف بأبيه وإخوته. وبه أيضاً ملَّك اللَّهُ يوسف ونصره ومكنه في الأرض حتى ملك مصر وأهلها. ولذلك قال نبينا- عليه الصلاة والسّلام-: «اللهم إعِنِّي عَلَيهم- أي على قريش- بِسبعٍ كَسَبع يُوسفَ» «٢».
وذكر الغزالي في الإحياء، في أسرار الجوع، أربعين خصلة. وفي بعض الأثر: (إن الله تعالى عذب النفس بأنواع من العذاب، ومع كل عذاب يقول لها: من أنا؟ فتقول هي: ومن أنا؟ حتى عذبها بالجوع، فقالت: أنت ربي سبحانك الواحد القهار). والممدوح منه هو المتوسط دون إفراط ولا تفريط، كما قال البوصيري:
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوع ومِنْ شِبعٍ | فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ |
(٢) أخرجه البخاري فى أكثر من موضع، منها: (كتاب التفسير- سورة الروم).