ما تمكَّنُوا بها من أنواع التصرف فيها فقد مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يا أهل مكة، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم، أو أعطيناهم من القوة والسَّعة في المال والاستظهار على الناس بالعُدَّة والعدَد وتَهَيُّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم،.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي: المطر أو السحاب عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي: مغزارا على قدر المنفعة بحسب الحاجة، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي: أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم، فعاشوا في الخصب والريف، بين الأنهار والثمار، فعَصوا وطَغوا وبَطرُوا النعمة، فلم يُغنِ ذلك عنهم شيئًا. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا أي:
أحدثنا، مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ بدلاً منهم. والمعنى: أنه تعالى كما قدَّر أن يُهلك مَن تقدم مِن القُرون، بعد أن مكَّنهم في البلاد واستظهروا على العباد، كعاد وثمود، وأنشأ بعدهم آخرين عمَّر بهم بلاده، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر الكفار المعاصرين لمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
الإشارة: النظر والاعتبار يُوجب للقلب الرقَّة والانكسار. وهي عبادة كبرى عند العُباد والزهاد، أُولي العزم والاجتهاد. وفوقها: فكرة الشهود والعيان، وهي الفكرة التي تطوي وجود الأكوان، وتُغيب الأواني بظهور المعاني، أو تريها حاملة لها قائمة بها، فالأُولى فكرة تصديق وإيمان، والثانية فكرة شُهُود وعِيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر عنادهم، وأنهم لا تنفع فيهم المعجزة، فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا محمد كِتاباً مكتوبًا فِي قِرْطاسٍ أي: رَقٍّ، فرأوه بأعينهم، ولمسوه بأيديهم، حتى لا يبقى فيه تزوير، لعاندوا، ولَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم بعد ذلك: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتًا وعنادًا، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم أن يقولوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز، فإنه قد يُتَجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «١».
ثم اقترحوا معجزة أخرى، وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يكلمنا أنه نبي، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أو شهيدًا له بالرسالة، رُوِي أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك. قال تعالى:

(١) من الآية ٨ من سورة الجن.


الصفحة التالية
Icon