ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا أي: بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا حَسَنَةٌ: حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
ثم قال: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ لكل ما يشغل عن الله الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام: سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد أضدادهم، الذين قالوا فيما أنزل لهم: (أساطير الأولين)، فقال:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
يقول الحق جلّ جلاله: لْ يَنْظُرُونَ
أي: ما ينظر هؤلاء الكفرة، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي: هو أساطير الأولين، لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم، وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
: قيام الساعة، أو العذاب المستأصِل لهم فى الدنيا، ذلِكَ
أي: مثل ذلك التكذيب والشرك، عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
، فأصابهم ما أصابهم، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم، لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لكفرهم ومعاصيهم، المؤدية إلى عذابهم.