ثم ذكر الطريق الموصلة إلى إحياء الأرواح، فقال:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
قلت: (الَّذِينَ صَبَرُوا) : نعت للذين هاجروا، أو على تقدير: (هم)، أو نصب على المدح.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي: طلب رضا الله، أو: في نصر دينه، أو: طلب معرفته، مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من بعد ما ظلمهم الكفار بالإيذاء والتضييق، وهم: رسول الله ﷺ وأصحابه المهاجرون. ظلمهم قريش وضيقوا عليهم، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وبعضهم إلى المدينة. قال ابن عطية: الجمهور أنها نزلت في الذين هاجروا إلى أرض الحبشة لأن الآية مكية، وهجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية. هـ. قلت:
والمختار: العموم، ويكون من جملة الإخبار بما سيقع، أو: هم المحبوسون المعذبون بمكة، بعد هجرة رسول الله ﷺ وهم بلال، وصُهَيب، وعمَّار، وخَبَّاب، وأبو جَنْدَل بن سُهَيل «١»، أو: كل من هاجر من بلده لإقامة دينه.
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي: لننزلنهم في الدنيا بقعة حسنة، وهي المدينة، أو منزلة حسنة، وهي العز والتمكين في البلاد، وكل أمل بَلَغَهُ المهاجرون، أو حياة حسنة، وهي الاستقامة والمعرفة. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما يُعجل لهم في الدنيا من سعة الأموال، وتعظيم الشأن والحال، وهو النعيم الدائم. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان، إذا أَعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه من قسمْ الغنائم، يقول له: (خذ، بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل) «٢». والضمير في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لكفار قريش، أي: لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين، أي: لو علموا أن أجر الآخرة خير مما عجل لهم لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
ثم وصفهم بالصبر والتوكل فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد، كأذى الكفرة، ومفارقة الوطن، ونزول الفاقة، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما نزل بهم، منقطعين إلى الله، مفوضين إليه الأمر كله، فآواهم إليه، وكفاهم كل مؤونة، ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
الإشارة: والذين هاجروا حظوظهم وهواهم، وكل ما نهى الله عنه ابتغاء مرضات الله، أو فارقوا أوطانهم

(١) فى الأصول: وأبو جندل وسهيل.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٥/ ٢٠).


الصفحة التالية
Icon