هو الذي يُريكم بَرْقَ لمعان أنوار المشاهدة، عند الاستشراف على الحضرة القدسية، خوفاً من الرجوع لعدم إطاقة ذلك النور، وطمعاً في الوصول إلى التمكين، فلا يزال تترادف عليه البروق حتى يستمر ذلك كبرق متصل، وهي أنوار المواجهة. وينشئ سحاب الواردات ثقالاً بالعلوم والأسرار، ويرسل الصواعق تصعق وجود الحس عن أسرار المعاني، فيصيب بها من يشاء ممن سبقتَ له العناية. وأهل الإنكار والتكذيب بطريق الخصوص يجادلون في الله بتكذيب أوليائه وإنكار هذه الأنوار، وهو شديد المحال، فيمكر بهم ويتركهم في مقام البُعد، وهم لا يشعرون.
ومن جملة التغيير الذي يسلب النعم ويوجب النقم: الركون إلى غير الله بالدعاء وغيره، كما قال تعالى:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٤ الى ١٥]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
يقول الحق جلّ جلاله: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ لأنه الذي يحق أن يُدعى فيجيب، دون غيره فإنما له الدعاء الباطل لأنه يُدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو: له دعوة الحق، وهي كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح لمناسبة قوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، أي: والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشيء مما طلبوا، أو: والمشركون الذين يدعون أصناماً من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء، فحذف المفعول للدلالة عليه، فلا يستجيبون لهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه، لِيَبْلُغَ فاهُ أي: يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي: ليس الماء ببالغ فاه لأنه جماد لا يشعر بدعائه، ولا يقدر على إجابته من حيث هو، شَبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه، ولا يبلغ فاه أبداً لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها لأنها خشب وأحجار. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ للأصنام إِلَّا فِي ضَلالٍ وخسران وضياع.
ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب، فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود حقيقة، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعاً فى الشدة والرخاء، والكفار يسجدون كرهاً في الشدة والضرورة. أو يكون مجازاً وهو: انقيادهم لما أراد منهم، شاءوا أو كرهوا. وَتسجد أيضاً ظِلالُهُمْ بانقيادها لله تعالى في طولها وقصرها، وميلها من جانب إلى جانب، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، أي: طرفَيْ النهار.
وخُصَّ هذان الوقتان- وإن كان سجودهما دائما- لأن الضلال إنما تَعْظُم وتكبر فيهما. وقال الواحدي: كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد لله تعالى، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. هـ.


الصفحة التالية
Icon