فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا، ولم يقبلوا منك، أو لم يُسلموا. فَإِنَّما عَلَيْكَ يا محمد الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي:
الإبلاغ البين، فلا يضرك إعْراضهم حيث بلَّغْتَهُمْ.
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي: يُقرون بأنها من عنده، ثُمَّ يُنْكِرُونَها بإشراكهم وعبادتهم غيرَ المنعِم بها، وبقولهم: إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب كذا، أو بإعراضهم عن حقوقها. وقيل: نعمة الله: نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوها بالمعجزات، ثم أنكروها عنادًا. وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الجاحدون عنادًا. وذكر الأكثر إمَّا لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتفريطه في النظر، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو كان فيهم من داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك. وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل، كقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «١». قال بعضه البيضاوي.
الإشارة: قال الورتجبي: بين الحق تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى- أي: تتلاشى- في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا- وهي العبودية-، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله حقيقة هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم:
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ | وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ |
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ | إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ |
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ | وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل «٢» |
(٢) هذا شعر عامى، أو زجل، وهو جيد المعنى، ويعبر عن همة عالية عند قائله. وقوله: إذا حمت القوائل، يعنى: إذا اشتد الحر فى أوقات الظهيرة. وبقية الزجل واضح المعنى.