أسرار الحقيقة، وهم: الأولياء الكبراء، أعني: العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أن القرآن فيه تبيان كل شىء، ذكر آية تضمنت أصول الأحكام، فيها تبيان كل شىء إجمالا، فقال:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي: التوحيد، أو الإنصاف، أو فعل الفرائض، وَالْإِحْسانِ، وهو: فعل المندوبات. وذلك في حقوق الله تعالى، وفي حق عباده، أو العدل في الأحكام، كل واحد فيما ولي فيه «كلكم راع». والإحسان إلى عباد الله بَرهم وفَاجرهم. قال ابن عطية: العدل: هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو: فعل كل مندوب إليه.
وقال البيضاوي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: بالتوسط في الأمور اعتقادًا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب، المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً، كالتعبد بأداء الواجبات، المتوسط بين البطالة والترهب، وخُلُقًا، كالجود المتوسط بين البخل والتبذير، والإحسان: إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية، كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما قال- عليه الصلاة والسلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تَراه، فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك». وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى: وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة.
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ: عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية، كالزنى فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها، وَالْمُنْكَرِ: ما ينكر على متعاطيه في إيثاره القوة الغضبية، وَالْبَغْيِ: الاستعلاء والاستيلاء على الناس، والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هي أجمع آية في القرآن للخير والشر». وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون، فلو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقب قوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ للتنبيه عليه. هـ.
وفي القوت: هي قطب القرآن. هـ. وعن عثمان بن مظعون: أنه قال: لَمَّا نزلت هذه الآية قرأتُها على أبي طالب، فعجب، وقال: آلَ غالبٍ، اتبعوه تفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق. هـ. قال ابن عطية:


الصفحة التالية
Icon