ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان طوعًا أو كرهًا، فقال: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ فعليهم غضب من الله، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على التلفظ بالكفر، أو على الافتراء على الله، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغير عقيدته، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي: فتحه ووسعه، فاعتقده، وطابت به نفسه، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إذ لا أعظم من جرمه.
رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه- وهما ياسر وسمية- على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين، وطعنوها بحربة في قلبها، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال، فماتت- رحمة الله عليها- وقتلوا ياسرًا زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مُكرهًا، فقيل: يا رسول الله إن عمارًا كفر، فقال: «كَلا، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ». فَأَتَى عمَّار رسول الله ﷺ وَهُوَ يَبْكي، فَجَعَلَ رَسُول الله ﷺ يَمْسَحُ عَيْنَيْه، ويقول: «مَا لك، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ» «١».
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه، إعزازًا للدين، كما فعل أبواه.
لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. وقال: ما تقول فيَّ؟ فقال:
أنت أيضًا، فخلى سبيله، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله، فقال: ما تقول فيَّ؟ فقال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الآخر فقد صدع بالحق، فهنيئًا له «٢». هـ. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي: وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر، وأما الإكراه على فعل وهو كفر، كالسجود للصنم، فاختلف هل يجوز الإجابة إليه أو لا؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز له الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله. هـ. وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها، فذكر عن مالك: أن القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف للدرء عن ماله، لظالم، بخلاف الدرء عن النفس والبدن، فإنه لا يحنث، قولاً واحدًا، إلا إذا تبرع باليمين، ففي لزومه خلاف. وانظر المختصر فى الطلاق.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٤/ ٢٥٠) لابن أبى شيبة عن الحسن مرسلا. [.....]