ثم قال تعالى لهم: إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعة والعمل الصالح، أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «١» وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليُهلكوا ما عَلَوْا عليه تَتْبِيراً إهلاكًا، أو مدة علوهم. قال البيضاوي: وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه «حَرْدُون»، وقيل: «حَرْدوس»، قيل: دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا: دم قربان لم يُقبل منا. فقال: ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا: دم يحيى، فقال: لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. هـ.
وقال السهيلي في كتاب «التعريف والإعلام» : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم «بختنصر»، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة: فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل: بختنصر، وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. هـ. وقول الجلال السيوطي: وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ منهم ومن غيرهم حَصِيراً محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد. وقيل: بساطًا كبسط الحصير، كقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نَفَسٍ تُبديه إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها،
(٢) من الآية ٤١١ من سورة الأعراف.