باختلافهما وبحركتهما، عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام، في معاملتكم وتصرفاتكم، وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيَّناه تبيينًا لا لبس فيه، أو: وكل شيء يظهر في الوجود، فصّلناه وقدّرناه في اللوح المحفوظ تفصيلاً، فلا يظهر في عالم الشهادة إلا ما فُصل في عالم الغيب.
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي: حظه وما قُدر له من خير وشر، فهو لازم فِي عُنُقِهِ لا ينفك عنه.
ويقال لكل ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدَّر في الأزل من الخير والشر: طائر لقول العرب:
جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم، لا محيد لهم عنه، كالسلسلة اللازمة للعنق، يُجر بها إلى ما يُراد منه. ومثله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ «١»، وقال مجاهد: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقي أو سعيد». أو: وكل إنسان ألزمناه عمله يحمله في عنقه، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً مكتوب فيه عمله، وهو صحيفته. يَلْقاهُ مَنْشُوراً، ويقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبًا، لا تحاسبك إلا نفسك، أو: رقيبًا وشهيدًا على عملك، أو: لا يَعُد عليك أعمالك إلا نفسك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للإنسان أن يكون داعيًا بلسانه، مفوضًا لله في قلبه، لا يعقد على شيء من الحظوظ والمآرب، فقد يدعو بالخير في زعمه، وهو شر في نفس الأمر في حقه، وقد يدعو بالشر وهو خير. وقد تأْتيه المضار من حيث يرتقب المسار، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فالتأني والسكون من علامة العقل، والشَّرَّةُ والعَجَلَة من علامة الحمق. فما كان من قسمتك لا بدّ يأتيك في وقته المقدّر له، وما ليس من قسمتك لا يأتيك، ولو حرصت كل الحرص. فكل شيء سبق تفصيله وتقديره، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٥ الى ١٧]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)