وسبب التفاوت: زيادة اليقين، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران. ولذلك قال تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ تعبده. والخطاب لكل سامع، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، فَتَقْعُدَ فتصير حينئذ مَذْمُوماً مَخْذُولًا جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين، والخذلان من الله. ومفهومه: أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين.
الإشارة: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ. ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وهي صاغرة» «١»، واعلم أن الناس على قسمين قوم أقامهم الحق لخدمته، وهم: العباد والزهاد، وقوم اختصهم بمحبته، وهم: العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الكرامات والأنوار، وفي المعارف والأسرار. وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب، هذا في الدنيا، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين. وقال القشيري في تفسير الآية: منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة، ثم يجتمعون في الرؤية، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ. وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا:

لو يَسْمَعُون- كما سمعتُ- حديثها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا «٢»
وقال الورتجبي: فضَّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات، وفضَّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات، فالعباد في الآخرة في درجات الجنان متفاوتون، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون. وقال القشيري أيضًا: من كانت مشاهدته اليوم على الدوام، كانت رؤيته غدًا على الدوام، ومن لا فلا. هـ.
وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا، عند قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «٣». والله تعالى أعلم.
ثم بيّن السعى للآخرة، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٥/ ١٨٣)، وابن ماجة فى (كتاب الزهد، باب الهم فى الدنيا) من حديث زيد بن ثابت، وأخرجه الترمذي فى (القيامة، باب ٣٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) البيت لكثير عزة. انظر ديوانه (٤٤٢)، وتزيين الأسواق (١/ ٤١).
(٣) الآية ١٠٣ من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon