يقول الحق جلّ جلاله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي: أعط ذا القربة حقه من البر، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة: إذا كانوا محاويج فقراء: أن ينفق عليهم. وقيل: الخطاب للرسول ﷺ أن يُؤتى قرابته من بيت المال، وَآت الْمِسْكِينَ حقه وَابْنَ السَّبِيلِ الغريب، من برهما والإحسان إليهما، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز: التبذير في النفقة: الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله. هـ. وأصل التبذير: التفريق. رُوي عن النبي ﷺ أنه قال لسعد، وهو يتوضأ:
«مَا هذَا السَّرَفُ؟ فقال: أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ؟ فقال: نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» «١».
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي: أمثالهم في الشر فإن التضييع والإتلاف شر. أو: على طريقتهم، أو: أصدقاؤهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها- أي: يتقامرون- من الميسر، وهو القمار- ويُبذرون أموالهم في السمعة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بالإنفاق في القرابات. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغاً في الكفر، فينبغي ألا يطاع.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي: وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد، حيث لم تجد ما تُعطيهم، ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي: لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فقل لهم قولاً لينًا سهلاً، بأن تعدهم بالعطاء عند مجئ الرزق، وكان ﷺ إذا سأله أحد، ولم يجد ما يعطيه، أعرض عنه، حياء منه. فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك، مثل: رزقنا الله وإياكم، والله يُغنيكم من فضله، وشبه ذلك.
ثم أمره بالتوسط في العطاء، فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، وهو استعارة لغاية الجود، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين، وأمر بالتوسط فيهما، كقوله: إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... «٢» الآية. فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً أي: فتصير، إذا أسرفت، ملومًا عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التبذير، محسورًا: منقطعًا بك، لا شيء عندك. وهو من قولهم: حسر السفر بالبعير: إذا أتعبه، ولم يُبْقِ له قوة. وعن جابر رضي الله عنه: بينا رسول الله ﷺ جالس، أتاه صبى،

(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٢/ ٢٢١)، وابن ماجة فى (الطهارة، باب ما جاء فى القصد فى الوضوء) من حديث عبد الله بن عمرو.
(٢) من الآية ٦٧ من سورة الفرقان.


الصفحة التالية
Icon