وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي: للكتاب عِوَجاً شيئًا من العوج، باختلافٍ في اللفظ، وتناقض في المعنى، وانحراف في الدعوة. قال القشيري: صانه عن التناقض والتعارض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز، ينزل على عَبْدٍ عزيز.
قَيِّماً: مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية، حسبما تُنبئ عنه الصيغة. أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير، فيكون وصفًا له بالتكميل، بعد وصفه بالكمال، أو: قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها. لِيُنْذِرَ: ليُخوّف اللهُ تعالى به، أو الكتاب، والأول أوْلى لتناسب المعطوفين بعده، أي: أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا بَأْساً: عذابًا شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي:
صادرًا من عنده، نازلاً من قِبَله، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
وَيُبَشِّرَ- بالتشديد والتخفيف، الْمُؤْمِنِينَ: المصدقين به، الَّذِينَ يَعْمَلُونَ أي: العُمال الصَّالِحاتِ التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه أَنَّ لَهُمْ أي: بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم أَجْراً حَسَناً، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى، ماكِثِينَ فِيهِ أي: في ذلك الأجر أَبَداً على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع في الصلة- أعني: الذين يعملون- للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً: متعلق بفرقة خاصة، ممن عمَّهُ الإنذار السابق، من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم، أي:
وينذر، من بين سائر الكفرة، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة، وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود القائلون: عزير ابن الله، والنصارى القائلون: المسيح ابن الله.
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي: ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً لضلالهم وإضلالهم، وَلا لِآبائِهِمْ الذين قلدوهم، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة، أو: ما لهم علم بما قالوا، أصواب أم خطأ، بل إنما قالوه رميًا بقولٍ عن عمى وجهالة، من غير فكر ولا روية، كقوله تعالى: خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ «١». أو: ما لهم علم بحقيقة ما قالوا، وبعِظَم رتبته في الشناعة، كقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «٢»، وهو الأنسب لقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً أي: عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه لما فيه من التشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: يتفوهون
(٢) الآيات: ٨٨- ٩٠ من سورة مريم.