إذ ضرب الله على آذانهم فناموا، ونفقتُهم عند رؤوسهم. فخرج «دقيانوس» في طلبهم بخيله ورَجله، فوجدهم قد دخلوا الكهف، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله، فلما ضاق بهم ذرعًا، قال قائل منهم: أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا جُوعًا وعَطَشًا، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى، إذ قال:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ، استئناف بياني، كأن سائلاً سأل عن حالهم، فقال: إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم، وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنهم، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: قويناهم، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان، والنعيم والإخوان، واجترءوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر، والرد على دقيانوس الجبار إِذْ قامُوا أي: انتصبوا لإظهار شعار الدين، قال مجاهد: خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم: إني لأجد في نفسي شيئًا، إن ربى هو ربُّ السمواتِ والأرضِ، فقالوا: نحن أيضًا كذلك، فقاموا جميعًا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل: قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى: (هؤُلاءِ... ) الخ: منقطعًا صادرًا عنهم، بعد خروجهم من عنده.
ثم قالوا: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لا استقلالاً ولا اشتراكاً، ولم يقولوا: ربًا للتصميم على الرد على المخالفين، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: قولاً ذا شطط، وهو الجور والتعدي، أي: لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، فيه معنى الإنكار، لَوْلا: هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ:
على ألوهيتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ: بحجة ظاهرة، فَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه فإنه أظلم من كل ظالم.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أي: فارقتموهم وَفارقتم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: فالتجئوا إليه، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ: يبسط لكم ويوسع عليكم مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين، مِرفَقاً: ما ترتفقون به، أي: تنتفعون، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.