الخامسة: التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا)، وبالله التوفيق.
ثم أمره بتلاوة كتابه الذي هو أصل كل رشد وصواب، وأقرب هداية لذوى الألباب، فقال تعالى:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٧]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ أي: أسرده على ما نزل، ولا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا «١»، أو اتبع أحكامه، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ: لا قادر على تبديله غيره، أو:
لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له، وَلَنْ تَجِدَ أبدًا مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي: ملجأ، تعدل إليه عند إلمام مُلمة، أو: لن تجد، إن بدلت تقديرًا، وخالفت ما أنزل إليك، ملتحدًا: ملجأ تميل إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية، دنيوية أو دينية، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به، رأى فَرَجًا، وقريبًا، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء إلى الله، فإنَّ الحق تعالى يتجلى في كلامه للقلوب على قدر صفائها، وأما من التجأ إلى غير الله فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تميل إليه فيأويك. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بصحبة الفقراء، الذين يعينونه على تلاوة كتابه ونصر دينه والتمسك به، فقال:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
قلت: (وَلا تَعْدُ) : نهي مجزوم بحذف الواو، و (عَيْناكَ) : فاعل، و (تُرِيدُ) : حال من الكاف، أو من فاعل (تَعْدُ).
يقول الحق جلّ جلاله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي: احبسها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي: يعبدونه بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، قيل: الصلوات الخمس، فالغداة: الصبح، والعَشِيِّ: الظهر وما بعده، وقيل: الصبح والعصر،

(١) من الآية ١٥ من سورة يونس.


الصفحة التالية
Icon