ثم أوعدهم على الكفر، فقال: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي: هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد، ووضعٌ للشيء في غير محله، أي:
هيأنا لهم نارًا عظيمة أَحاطَ بِهِمْ أي: محيطُ بهم سُرادِقُها أي: سورها المحيط بها، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، والسرادق: ما يحيط بالشيء، كالجدار ونحوه. قيل: هو حائط من نار، وقيل: دخانها.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ: كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة. وقيل: كرديء الزيت في اللون، يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قُدم ليشرب بحرارته. عن النبي ﷺ أنه قال: «هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه» «١».
بِئْسَ الشَّرابُ ذلك، وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً: مُتَّكًا، وأصل الارتفاق: نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه، وأنى ذلك في النار، وإنما هو لمقابلة قوله في المؤمنين: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً.
الإشارة: ينبغي للواعظ، أو المُذكر، أو العالم، ألا يحرص على الناس، بل يستغني بالله في أموره كلها، وإنما يُبين الحق من الباطل، ويقول: هذا الحق من ربكم، فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس، وأما إن كان لخاصتهم كأهل الرئاسة والجاه، فاختُلف فيه فقال بعضهم: يسلك هذا المنهاج، يُبين الحق ولا يبالي، محتجًا بالآية، قال: نحن أمة محمدية، قال تعالى له: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ... الآية، وقال بعضهم: ينبغي أن يلين لهم القول لقوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «٢»، وهو الأليق بطريق السياسة، فمن أعرض عن الوعظ، وبقي على ظلمه، فالآية تجر ذيلها عليه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم، فقال:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)

(١) أخرجه، دون العبارة الأخيرة، أحمد فى المسند (٣/ ٧٠)، والترمذي فى (صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار)، والبغوي فى تفسيره (٥/ ١٦٨)، عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه. [.....]
(٢) الآية ٤٤ من سورة طه.


الصفحة التالية
Icon