أو: الهمات العالية والنيات الصالحة إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو: كل ما أريد به وجه الله، وسميت باقيةً:
لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
قال في الإحياء: كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية لبقائهما كمالاً فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. هـ.
وهي، أي: الباقيات الصالحات خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ أي: في الآخرة ثَواباً أي: عائدة تعود على صاحبها، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «١». وقوله: عِنْدَ رَبِّكَ: بيان لما يظهر فيه خيريتها، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى: وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى، حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير «خَيْرٌ» للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه.
الإشارة: قد تقدّم، مراراً، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة لسرعة ذهابها وانقراضها.
روى أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ قال: «يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا؟ قلت: نعم، فأخذ بيدي، وانطلق، حتى وقف بي على مزبلة، رؤوس الآدميين ملقاة، وبقايا عظام نخرة، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين، فقال: يا أبا هريرة هذه رؤوس الآدميين التي تراها، كانت مثل رؤوسكم، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون، فاليوم قد تعرّت عظامهم، وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها، وينهبها بعضُهم من بعض، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك، فإنها موضع البكاء. قال أبو هريرة رضي الله عنه:
فبكى جماعة الحاضرين» «٢».
(٢) لم أقف على حديث بهذا السياق.