وَاشْرَبِي من ذلك السري، وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسًا وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التُهم، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة. أو: وقري عينًا بحفظ الله ورعايته في أمورك كلها.
وقرة العين: برودتها، مأخوذ من القرّ، وهو البرد لأن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سُخن، ولذلك يقال: قرة العين للمحبوب، وسُخنة العين للمكروه.
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً آدميًا كائنًا من كان فَقُولِي له إن استنطقكِ أو لامك: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي: صمتًا، وقرىء كذلك، وكان صيامهم السكوت، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام. وذكر ابن العربي في الأحوذى: أن نبينا- عليه الصلاة والسلام- اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم، وكان محرمًا على من قبلنا، عكس الصلاة. هـ. قالت: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي: بعد أن أخبرتكم بنذري، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي. وقيل: أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة. قال الفراء: العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا، ما لم يُؤكّد بالمصدر، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. هـ. وإنما أُمرت بذلك ونذرته لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها عند ما طَهُرت من نفاسها، تَحْمِلُهُ أي: حاملة له. قال الكلبي: احتمل يوسف النجار- وكان ابن عمها- مريمَ وابنها عيسى، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا، حتى تَعَلّتْ من نفاسها، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا، وكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمه، أبشري، فإني عبد الله ومسِيحُه. فلما رآها أهلُها، بَكَوا وحزنوا، وكانوا قومًا صالحين. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ أي: فعلت شَيْئاً فَرِيًّا: عظيمًا بديعًا منكرًا، من فَرَى الجلد: قطعه. قال أبو عبيدة: (كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ). قال النبي صلى الله عليه وسلم: فى حق عمر رضي الله عنه: «فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة» «١» أي: يعمل عمله.
يا أُخْتَ هارُونَ، عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله، أي: كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة، وكان بينها وبينه ألفُ سنة. أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون، فشبهوها به. ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا، كلهم يسمي هارون من بني إسرائيل. وقيل: إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل، فشتموها بتشبيهها به. ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ

(١) أخرجه البخاري فى مواضع، منها: (فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه) عن عبد الله بن عمر، وأخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه) عن أبى هريرة، ولفظ الحديث كاملا كما فى البخاري: قال صلى الله عليه وسلم:
«أريت فى المنام أنى أنزع بدلو على بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفرى فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن».


الصفحة التالية
Icon