السرية- كالفكرة والنظرة في مقام المشاهدة- حمله الحق إلى الحضرة القدسية، فيكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف في قوله تعالى: (وَفْداً) : قيل: ركبانًا على نجائب طاعتهم، وهم مختلفون، فمن راكب على صور الطاعات، ومن راكب على نجائب الهمم، ومن راكب على نجائب الأنوار، ومن محمول يحمله الحق في عقباه، كما يحمله اليوم في دنياه، وليس محمول الحق كمحمول الخلق. هـ.
وقوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ... ) الآية، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم، وهم أعظم من أهل المقام الأول، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم، وهم أعظم من القسمين، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم، وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة، أنَّ بعض الأولياء قال عند موته: يا رب شفِّعني في أهل زماني، فقال له الحق تعالى- من جهة الهاتف-: لم يبلغ قدرك هذا، فقال: يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا، فقال له: إني شفعتك في أهل عصرك. هـ. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم الله وجوده، ودخل من هذا الباب، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء. وبالله التوفيق.
ثم كرر الرد على أهل الشرك والضلال وشنّع عليهم، فقال:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٥]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
قلت: «هَدًّا» : مصدر مؤكد لمحذوف، هو حال من الجبال، أي: تهد هدًا. و «أَنْ دَعَوْا» : على حذف اللام، أي:
لأن دعوا، وفيه احتمالات أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى، ومن يزعم من العرب إن الملائكة بنات الله، لعن الله جميعهم، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فحكى جنايتهم إثر جناية عَبَده الأصنام، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم في الضلالة، قال تعالى في شأنهم: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي: فعلتم أمرًا منكرًا شديداً، لا يُقادر قدره، فهو رد لمقالتهم الباطلة، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات


الصفحة التالية
Icon