إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها، وهم في ذلك مقامات متفاوتة، على حسب صدقهم وجدهم، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار، وهم العارفون الكبار، السابقون المقربون، أهلُ الفناء والبقاء، أهل الرسوخ والتمكين، فهداهم إلى ما أمّلوا، ووصلهم إلى ما طلبوا. نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى... الآية، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي: جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية، تحيا به الأرواح، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى. (مِنْها خَلَقْناكُمْ) : من أرض نفوسكم أخرجناكم، بشهود عظمة الربوبية، وفيها نُعيدكم للقيام برسم العبودية، ومنها نُخرجكم لتكونوا لله، لا لشيء دونه. أو منها خلقناكم، أي:
أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها، بالفناء عنها، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء، (ومنها نُخرجكم تارة أخرى) بعقد الحرية في مقام البقاء، فتكونوا عبيدًا شكّرا. وبالله التوفيق.
ثم إن فرعون لم تنفعه هذه الموعظة، ولا ما رأى من الآيات الباهرة، حتى طلب المعارضة، كما أبان ذلك الحق سبحانه بقوله:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
قلت: (مَوْعِداً) : مصدر، مفعول أول ل (فَاجْعَلْ). و (مَكاناً) : مفعول بفعل محذوف، أي: تعدنا مكانًا سُوى، لا بموعد لأنه وصف، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض، و (يَوْمُ الزِّينَةِ) : على حذف مضاف، أي: مكان يوم الزينة، و (أَنْ يُحْشَرَ) : عطف على يوم، أو الزينة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ أي: فرعون، آياتِنا، حين قال له: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «١»، وعبّر بالجمع، مع

(١) الآيات: ٣١- ٣٣ من سورة الشعراء.


الصفحة التالية
Icon