[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٦ الى ١٨]

وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
قلت: (لاعِبِينَ) : حال من فاعل خلق، و «إِنْ كُنَّا» : شرط حُذف جوابه، أي: إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدُنا، وقيل: نافية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسها، ولا تُعد أفرادها، ولا تُحصر أنواعها وآحادها، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب، لاعِبِينَ خالية عن الحِكم والمصالح، بل لحِكَم بديعة ومصالح عديدة، دينية تَقْضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنيوية لا تُعد ولا تُحصى، وهذا كقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «١»، فالمراد من الآية: إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم، وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحِكَم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة، وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل، والعقاب النازل بأهل القُرى، من مقتضيات تلك الحِكم، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك عدلاً منه، ومجازاة على أعمالهم، وأن المخاطبين المتقدمين- وهو قريش- على آثارهم لأن لهم ذنوبًا مثل ذنوبهم. وإنما عبَّر عن نفي الحكمة باللعب، حيث قال: لاعِبِينَ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخاليِ عن الحكمة، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره منه سبحانه، وهو اللهو واللعب، بل إنما خلقناهما، وما بينهما لتكون مبدأ الوجود الإنساني وسببًا لمعاشه، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا، التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى.
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه، فقال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي: ما يلهى به ويلعَب، لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي: من أنفسنا لعلمنا بحقائق الأشياء، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى: لو أردنا أن نخلق شيئًا، لا لتحصيل مصلحة لكم، ولا لدرء مفسدة عنكم، لفعلنا ذلك في أنفسنا بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها، وأنا لم نخلق شيئًا عبثًا، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات لمصلحة ومنفعة، عَلِمها، من عَلِمها وجَهِلَها من جَهِلَها، فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح عقلاً، بهذه الشرطية، وإثباته سمعا.
(١) من الآية ٢٧ من سورة ص.


الصفحة التالية
Icon