وقوله تعالى: (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ... ) الآية، تمتيع العبد بطول الحياة، إن كان ذلك في طاعة الله، وازدياد في معرفته، فهو من النعم العظيمة. وفي الحديث: «خَيرُكُم مَنْ طَالَ عُمرُه وَحَسُنَ عَمَلُهُ» «١». لكن عند الصوفية:
أنه لا ينبغي للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره في طريق القوم، فقد كان بعض الشيوخ يقول: لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد. قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه: معنى كلامه: أنه لا ينبغي للفقير أن يعد كم له في طريق القوم، ليقول: أنا لي كذا وكذا من السنين في طريق القوم. هـ بالمعنى. ولعل علة النهي لئلا يرى للأيام تأثيرًا في الفتح، فقد قالوا: هي لمن صدق لا لمن سبق.
وقوله تعالى: (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قال القشيري: فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين، وتطاول العمر، فإن آخر الأمر «٢» كما قيل:
آخِرُ الأمر ما تَرَى:... القبرُ واللَّحدُ والثرى
وكما قيل:
طَوَى العَصْرانِ «٣» ما نَشَرَاهُ مني... فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ
أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ... ولا يبقى مع النقصان شيُّ «٤»
وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة. والله تعالى أعلم.
ولما بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون، ونهاية سوء حالهم، عند إتيانه، ونعى عليهم جهلهم بذلك، وإعراضهم عند ذكر ربهم، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار، أمَرَ نبيه- عليه الصلاة والسلام- بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به، مما يستعجلونه، إنما هو بالوحي، لا من عنده، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
(٢) فى الأصول: إلى آخر الأمد.
(٣) فى الأصول: «العمران ما نشاه»، والمثبت: من لطائف الإشارات... والعصران: الغداة والعشى، أو الليل والنهار. انظر: اللسان (عصر ٤/ ٢٩٦٨).
(٤) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل، انظر: الوافي بالوفيات (٥/ ٢٢٢)، كما نسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا، كما فى تاريخ بغداد (١٤/ ٣١١). [.....]