فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ، الإرسال يُعَدّى بإلى، ولم يعدّ بهاهنا وفي قوله: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ «١»، وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ «٢» لأن الأمة والقرية جعلت موضعاً للإرسال، إيذاناً بأن المرسل إليهم لم يأتيهم من غير مكانهم، بل إنما نشأ بين أظهرهم، كما ينبىء عنه قوله: رَسُولًا مِنْهُمْ أي: من جملتهم نسباً، وهو: هود أو صالح، فإنهما- عليهما السلام- كانا منهم. قائلاً لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ عذابه، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ، ذكر مقال قوم هود، في جوابه، في الأعراف وهود بغير «واو» لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال قومه؟ فقيل: قالوا: كيت وكيت، وهنا مع الواو لأنه عطفٌ لما قالوه على ما قاله الرسول ومعناه: حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق، وليس بجواب للنبي متصل بكلامه، وجيء بالفاء في قصة نوح عليه السلام لأنه جواب لقوله، واقعٌ عَقِبَه، أي: وقال الأشراف من قومه الَّذِينَ كَفَرُوا، وُصفوا بالكفر ذَماً لهم، وتنبيهاً على غُلوِّهم فيه، وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي: بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية، وَأَتْرَفْناهُمْ: نَعَّمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد، أي:
قالوا لأتباعهم، مُضلين لهم: ما هذا النبي إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة والأحوال، والاحتياج إلى القِوام، ولم يقولوا: مثلنا تهويناً لأمره عليه السلام.
ثم فسر المثلية بقوله: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أي: منه، فحذف لدلالة ما قبله عليه، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم به وينهاكم عنه، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنهم أبو اتِّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ- بالكسر والضم- من مات يُمات ويموت، وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً نخرة، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، فأنكم الثانية، توكيد للأولى للفصل بينهما، والتقدير: أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً؟ هَيْهاتَ هَيْهاتَ، تكرير لتأكيد البُعد، وهو اسم فعل مبني على الفتح، واقع موقع بَعُد، فاعلها مضمر، أي: بعد التصديق أو الوقوع لِما تُوعَدُونَ من العذاب، أو فاعلها: «ما توعدون»، واللام زائدة، أي: بَعُد ما تعدون من البعث، وقيل: ما توعدون من البعث. وقيل: مبتدأ، وهما اسم للبعد، و (لِما تُوعَدُونَ) : خبر، أي: بُعْدٌ بُعْدٌ لما توعدون، إِنْ: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، والضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما بعده من بيانه، وأصله: إن الحياةُ إلا حياتنا، وأتى بالضمير حذراً من التكرير، أي: لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها، ودنت منا، نَمُوتُ وَنَحْيا أي: يموت بعضنا ويولد بعضٌ، إلى انقراض العصر، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد
(٢) من الآية ٩٤ من سورة الأعراف.